فصل: النوع العشرون: في المغالطات المعنوية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر (نسخة منقحة)



.النوع العشرون: في المغالطات المعنوية:

وهذا النوع من أحلى ما استعمل من الكلام وألطفه، لما فيه من التورية.
وحقيقته أن يذكر معنى من المعاني له مثل في شيء آخر ونقيض، والنقيض أحسن موقعا، وألطف مأخذا.
فالأول الذي يكون له مثل يقع في الألفاظ المشتركة، فمن ذلك قول أبي الطيب المتنبي:
يشلهم بكل أقب نهد ** لفارسه على الخيل الخيار

وكل أصم يعسل جانباه ** على الكعبين منه دم ممار

يغادر كل ملتفت إليه ** ولبته لثعلبه وجار

فالثعلب: هو هذا الحيوان المعروف، والوجار: اسم بيته، والثعلب أيضاً هو طرف سنان الرمح، فلما اتفق الاسمان بين الثعلبين حسن ذكر الوجار في طرف السنان، وهذا نقل العنى من مثل إلى مثله.
وعليه ورد قول المتنبي أيضا:
برغم شبيب فارق السيف كفه ** وكانا على العلات يصطحبان

أن رقاب الناس قالت لسيفه ** رفيقك فيسي وأنت يماني

فإن شبيبا الخارجي الذي خرج على كافور الإخشيدي، وقصد دمشق وحاصرها، وقتل على حصارها، كان من قيس، ولم تزل بين قيس واليمن عداوات وحروب، وأخبار ذلك مشهورة، والسيف يقال له يماني في نسبته إلى اليمن، ومراد المتنبي من هذا البيت أن شبيبا لما قتلوا فارق السيف كفه فكأن الناس قالوا لسيفه: أنت يماني وصاحبك قيسي، ولهذا جانبه السيف وفارقه وهذه مغالطة حسنة وهي كالأولى إلا أنها أدق وأغمض.
وكذلك ورد قول بعضهم من أبيات يهجو بها شاعرا، فجاء من جملتها قوله:
وخلطتم بعض القرآن ببعضه ** فجعلتم الشعراء في الأنعام

ومعنى ذلك أن الشعراء اسم سورة من القرآن الكريم والأنعام اسم سورة أيضا، والشعراء: جمع شاعر، والأنعام: ما كان من الإبل والبقر.
وكذلك ورد قول بعض العراقيين يهجو رجلا كان على مذهب أحمد بن حنبل رضي الله عنه، ثم انتقل إلى مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه، ثم انتقل إلى مذهب الشافعي رضي الله عنه:
من مبلغ عني الوجيه رسالة ** وإن كان لا تجدي لديه الرسائل

تمذهبت للنعمان بعد ابن حنبل ** وفارقته إذ أعوزتك المآكل

وما اخترت رأي الشافعي تدينا ** ولكنما تهوى الذي منه حاصل

وعما قليل أنت لا شك صائر ** إلى مالك فافطن لما أنا قائل

ومالك: هو مالك بن أنس صاحب المذهب رضي الله عنه، ومالك: هو خازن النار وهذه مغالطة لطيفة.
ومن أحسن ما سمعته في هذا الباب قول أبي العلاء بن سليمان في الإبل:
صلب العصا بالضرب قد دماها ** تود أن الله قد أفناها

إذا أرادت رشدا أغواها ** محاله من رقه إياها

فالضرب: لفظ مشترك، يطلق على الضرب بالعصا، وعلى الضرب في الأرض، وهو المسير فيها، وكذلك دماها فإنه لفظ مشترك يطلق على شيئين: أحدهما يقال: دماه، إذا أسال دمه، ودماه إذا جعله كالدمية، وهي الصورة، وهكذا لفظ الفناء فإنه يطلق على عنب الثعلب، وعلى إذهاب الشيء إذا لم يبق منه بقية، يقال: أفناه، إذا أذهبه، وأفناه، إذا أطعمه الفناء، وهو عنب الثعلب، والرشد والغوي: نبتان يقال: أغواه إذا أضله، وأغواه، إذا أطعمه الغوى، ويقال: طلب رشدا، إذا طلب ذلك النبت، وطلب رشدا، إذا طلب الهداية، وبعض الناس يظن هذه الأبيات من باب اللغز، وليس كذلك، لأنها تشتمل على ألفاظ مشتركة، وذلك معنى ظاهر يستخرج من دلالة اللفظ عليه، واللغز: هو الذي يستخرج من طريق الحزر والحدس، لا من دلالة اللفظ عليه، وسأوضح ذلك إيضاحا جليا في النوع الحادي والعشرين، وهو الذي يتلو هذا النوع فليؤخذ من هناك.
ويروى في الأخبار الواردة في غزاة بدر أن النبي كان سائرا بأصحابه يقصد بدرا، فلقيهم رجل من العرب، فقال: ممن القوم؟ فقال النبي: «من ماء» فأخذ ذلك الرجل يفكر ويقول: من ماء، من ماء لينظر أي بطون العرب يقال لها ماء، فسار النبي لوجهته، وكان قصده أن يكتم أمره، وهذا من المغالطة المثلية، لأنه يجوز أن يكون بعض بطون العرب يسمى ماء، ويجوز أن يكون المراد أن خلقهم من ماء.
وقد جاءني شيء من ذلك الكلام المنثور.
فمنه ما كتبته في فصل من كتاب عند دخولي إلى بلاد الروم أصف فيه البرد والثلج، فقلت: ومن صفات هذا البرد أنه يعقد الدر في خلفه، والدمع في طرفه، وربما تعدى إلى قليب الخاطر فأجفه أن يجري بوصفه، فالشمس مأسورة والنار مقرورة، والأرض شهباء غير أنها حولية لم ترض، ومسيلات الجبال أنهار غير أنها جامدة لم تخض.
ومكان المغالطة من هذا الكلام في قولي: والأرض شهباء غير أنها حولية لم ترض فإن الشهباء من الخيل يقال فيها حولية: أي لها حول، ويقال إنها مروضة: أي ذللت للركوب، وهذه الأرض مضى للثلج عليها حول فهي شهباء حولية، وقولي لم ترض أي لم تسلك بعد.
ومن ذلك ما ذكرته في وصف كريم، فقلت: ولقد نزلت منه بمهلبي الصنع، أحنفي الأخلاق، ولقيته فكأني لم أرع ممن أحب بلوعة الفراق، ولا كرامة للأهل والوطن حتى أقول إني قد استبدلت به أهلا ووطنا، وعهدي بالأيام وهي من الإحسان فاطمة فاستولدتها بجواره حسنا.
وهذه تورية لطيفة فإن فاطمة بنت رسول الله والحسن رضي الله عنهما ولدها، وفاطمة: هي اسم فاعلة من الفطام، يقال: فطمت فهي فاطمة، كما يقال: فطم فهو فاطم، والحسن: هو الشيء الحسن.
ومن هذا الأسلوب ما كتبته في فصل كتاب إلى بعض الإخوان، فقلت: وعهده بقلمي وهو يتحلى من البيان بأسمائه، وتبرز أنوار المعاني من ظلمائه، وقد أصبحت يدي منه وهي حمالة الحطب، وأصبح خاطري أبا جهل بعد أن كان أبا لهب.
وهذا أحسن من الأول، وأخلب عبارة، فانظر أيها المتأمل إلى ما فيه من التورية اللطيفة، ألا ترى أن الخاطر يحمد فيوصف بأنه وقاد وملتهب، ويذم فيوصف بأنه بليد وجاهل، وأبو لهب وأبو جهل: هما الرجلان المعروفان، وكذلك حمالة الحطب هي المرأة المعروفة، وإذا ذم القلم قيل: إنه حطب، وإن صاحبه حاطب، فلما نقلت أنا هذا إلى المعنى الذي قصدته جئت به على حكم المغالطة، ووريت فيه تورية، والمسلك إلى مثل هذه المعاني وتصحيح المقصد فيها عسر جدا، لا جرم أن الإجادة فيها قليلة.
ومما يجري هذا المجرى ما ذكرته في وصف شخص بمعالي الأمور، وهو: من أبر مساعيه أنه حاز قفل المكرمات ومفتاحها، فإذا سئل منقبة كان مناعها وإذا سئل موهبة كان مناحها، وأحسن أثرا من ذلك أنه أخذ بأعنة الصعاب وألان جماحها، فإذا شهد حومة حرب كان منصورها وإذا لقي مهجة خطب كان سفاحها.
والمغالطة في هذا الكلام في ذكر المنصور والسفاح، فإنهما لقب خليفتين من بني العباس، والسفاح: أول خلفائهم، والمنصور: أخوه الذي ولي الخلافة من بعده، وهما أيضاً من النصر في حومة الحرب والسفح الذي هو الإراقة، والمهجة: دم القلب، فكأني قلت: هو منصور في حومة الحرب، ومريق لدم الخطوب، وقد اجتمع في هذا الكلام المنصور والمنصور، والسفاح والسفاح، وهذا من المغالطة المثلية لا من النقيضية، ولا خفاء بما فيها من الحسن.
ومن ذلك ما كتبته في كتاب إلى بعض الإخوان، فقلت: وقد علمت أن ذلك الأنس بقربه يعقب إيحاشا، وأن تلك النهلة من لقائه تجعل الأكباد عطاشا، فإن من شيمة الدهر أن يبدل الصفو كدرا، ويوسع أيام عقوقه طولا وأيام بره قصرا، وما أقول إلا أنه شعر بتلك المسروقة فأقام عليها حد القطع، ورأى العيش فيها خفضا فأزاله بعامل الرفع.
والمغالطة في هذا الكلام هي في ذكر الخفض والرفع، فإن الخفض هو سعة العيش، والخفض هو أحد العوامل النحوية، والرفع: هو من قولنا رفعت الشيء، إذا أزلته، والرفع هو أحد العوامل النحوية أيضا، وهذا من المغالطات الخفية.
ومن ذلك ما كتبته في فصل أصف فيه الحمى، وكنت إذ ذاك بحصن سميساط، وهو بلد من بلاد الأرمن، فقلت: ومما أكره في حال المرض بهذه الأرض أن الحمى خيمت بها فاستقرت، ولم تقنع بأهلها حتى سرت إلى تربتها فترى وقد أخذتها النافض فاقشعرت، ولم يشكل أمرها إلا أنها حمى أرمنية مستعجمة اللسان، وقد تشتبه الأمراض وأهل بلادها في الأبان، وإذا كانت الحمى كافرة لم تزل للمسلم حربا، وشكاتها لا تسمى شكاة وإنما تسمى طعنا وضربا، ولهذا صارت الأدوية في علاجها ليست بأدوية، وأصبحت أيام نحرها في الناس غير مبتدأة بأيام تروية، وليس موسمها في فصل معلوم بل كل فصول العام من مواسمها، ولو كاتبتها نصيبين أو ميافارقين بكتاب لترجمته بعبدها وخادمها.
والمغالطة هاهنا في قولي: وأصبحت أيام نحرها في الناس غير مبتدأة بأيام تروية والمراد بذلك أنها تقبل بغتة من غير ترو: أي من غير تلبث، ويوم النحر: هو يوم عيد الأضحى، وقبله يوم يسمى يوم التروية، فالمغالطة حصلت بين نحر الحمى للناس ونحر الضحايا، إلا أن يوم النحر مبتدأ بيوم التروية، ولا خفاء بما في هذه المغالطة من الحسن واللطافة.
وأما القسم الآخر وهو النقيض فإنه أقل استعمالا من القسم الذي قبله لأنه لا يتهيأ استعماله كثيرا.
فمن جملته ما ورد شعرا لبعضهم، وهو قوله:
وما أشياء تشريها بمال ** فإن نفقت فأكسد ما تكون

يقال: نفقت السلعة، إذا راجت، وكان لها سوق، ونفقت الدابة إذا ماتت، وموضع المناقضة هاهنا في قوله: إنها إذا نفقت كسدت، فجاء بالشيء ونقيضه، وجعل هذا سببا لهذا، وذلك من المغالطة الحسنة.
ومن ذلك ما كتبته في جملة كتاب إلى ديوان الخلافة يتضمن فتوح بلد من بلاد الكفار، فقلت في آخر الكتاب: وقد ارتاد الخادم من يبلغ عنه مشاريح هذه الوقائع التي اختصرها، ويمثل صورها لمن غاب عنها كما تمثلت لمن حضرها، ويكون مكانه من النباهة كريما كمكانها، وهي عرائس المساعي فأحسن الناس بياناً مؤهل لإبداع حسانها، والسائر بها فلان وهو راوي أخبار نصرها التي صحتها في تجريح الرجال، وعوالي إسنادها مأخوذة من طرق العوال، والليالي والأيام لها رواة فما الظن برواية الأيام والليال.
وفي هذا الفصل مغالطة نقيضية، ومغالطة مثلية، أما المغالطة المثلية فهي في قولي: وعوالي إسنادها مأخوذة من طرق العوال وقد تقدم الكلام على هذا وما يجري مجراه في القسم الأول، وأما المغالطة النقيضية فهي قولي وهو راوي أخبار نصرها التي صحتها في تجريح الرجال وموضع المغالطة منه أنه يقال في رواة الأخبار: فلان عدل صحيح الرواية، وفلان مجروح: أي سقيم الرواية غير موثوق به، فأتيت بهذا المعنى على وجه النقيض، فقلت صحة أخبار هذه الفتوح في تجريح الرجل: أي تجريحهم في الحرب، وفي هذا من الحسن ما لا خفاء به.
وقد أوردت من هذه الأمثلة ما فيه كفاية ومقنع.
فإن قيل: إن الضرب الأول من هذا النوع هو التجنيس الذي لفظه واحد ومعناه مختلف كالمثال الذي مثلته في قول أبي الطيب المتنبي ثعلب ووجار، فإن الثعلب هو الحيوان المعروف، وهو أيضاً طرف السنان وكذلك باقي الأمثلة.
قلت في الجواب إن الفرق بين هذين النوعين ظاهر، وذاك أن التجنيس يذكر فيه اللفظ الواحد مرتين، فهو يستوي في الصورة ويختلف في المعنى، كقول أبي تمام:
بكل فتى ضرب يعرض للقنا ** محيا محلى حليه الطعن والضرب

فالضرب: الرجل الخفيف، والضرب: هو الضرب بالسيف في القتال، فاللفظ لا بد من ذكره مرتين والمعنى فيه مختلف، والمغالطة ليست كذلك، بل يذكر فيها اللفظ مرة واحدة، ويدل به على مثله، وليس بمذكور.

.النوع الحادي والعشرون: في الأحاجي:

وهي الأغاليط من الكلام وتسمى الألغاز، جمع لغز وهو الطريق الذي يلتوي ويشكل على سالكه، وقيل: جمع لغز بفتح اللام وهو: ميلك بالشيء عن وجهه، وقد يسمى هذا النوع أيضاً المعمى، وهو يشتبه بالكناية تارة، وبالتعريض أخرى، ويشتبه أيضاً بالمغالطات المعنوية، ووقع في ذلك عامة أرباب هذا الفن.
فمن ذلك أن أبا الفرج الأصفهاني ذكر بيتي الأقيشر الأسدي في جملة الألغاز وهما:
ولقد أروح بمشرف ذي ميعة ** عسر المكرة ماؤه يتفصد

مرح يطير من المراح لعابه ** ويكاد جلد إهابه يتقدد

وهذان البيتان من باب الكناية، لأنهما يحملان على الفرس، وعلى العضو المخصوص، وإذا حمل اللفظ على الحقيقة والمجاز فكيف يعد من جملة الألغاز؟ وكذلك فعل الحريري في مقاماته، فإنه ذكر في الأحاجي التي جعلها حكم الفتاوي كناية ومغالطة معنوية، وظن أنهما من الأحاجي الملغزة، كقوله: أيحل للصائم أن يأكل نهارا، والنهار: من الأسماء المشتركة بين النهار الذي هو ضد الليل وبين فرخ الحبارى، فإنه يسمى نهارا، وإذا كان من الأسماء المشتركة صار من باب المغالطات المعنوية، لا من باب الأحاجي، والإلغاز شيء منفصل عن ذلك كله، ولو كان من جملته لما قيل لغز، وأحجية، وإنما قيل كناية، وتعريض، أو مغالطة، ولكن وجد من الكلام ما يطلق عليه الكناية ومنه ما يطلق عليه التعريض، ومنه ما يطلق عليه المغالطة، ومنه شيء آخر خارج عن ذلك، فجعل لغزا وأحجية.
وكنت قدمت القول بأن الكناية هي اللفظ الدال على جانب الحقيقة وعلى جانب المجاز، فهو يحمل عليهما معا، وأن التعريض هو ما يفهم من عرض اللفظ لا من دلالته عليه حقيقة ولا مجازا، وأن المغالطة هي التي تطلق ويراد بها شيئان: أحدهما دلالة اللفظ على معنيين بالاشتراك الوضعي، والآخر دلالة اللفظ على المعنى ونقيضه.
وأما اللغز والأحجية فإنهما شيء واحد، وهو: كل معنى يستخرج بالحدس والحزر، لا بدلالة اللفظ عليه حقيقة ولا مجازا، ويفهم من عرضه، لأن قول القائل في الضرس:
وصاحب لا أمل الدهر صحبته ** يشقى لنفعي ويسعى سعي مجتهد

ما إن رأيت له شخصا فمذ وقعت ** عيني عليه افترقنا فرقة الأبد

لا يدل على أنه الضرس، لا من طريق الحقيقة ولا من طريق المجاز، ولا من طريق المفهوم، وإنما هو شيء يحدس ويحزر، والخواطر تختلف في الإسراع والإبطاء عند عثورها عليه.
فإن قيل إن اللغز يعرف من طريق المفهوم وهذان البيتان يعلم معناهما بالمفهوم.
قلت في الجواب: إن الذي يعلم بالمفهوم إنما هو التعريض، كقول القائل: إني لفقير، وإني لمحتاج فإن هذا القول لا يدل على المسألة والطلب، لا حقيقة ولا مجازا، وإنما فهم منه أن صاحبه متعرض للطلب، وهذان البيتان ليسا كذلك، فإنهما لا يشتملان على ما يفهم منه شيء إلا بالحدس والحزر، لا غير وكذلك كل لغز من الألغاز.
وإذا ثبت هذا فاعلم أن هذا الباب هو اللغز والأحجية والمعمى يتنوع أنواعا: فمنه المصحف، ومنه المعكوس، ومنه ما ينقل إلى لغة من اللغات غير العربية، كقول القائل: إسمي إذا صحفته بالفارسية آخر، وهذا اسمه اسم تركي، وهو دنكر، بالدال المهملة والنون، وأخر بالفارسية ديكر بالدال المهملة والياء المعجمة بثنتين من تحت وإذا صفحت هذه الكلمة صارت دنكر، بالنون فانقلبت الياء نونا بالتصحيف، وهذا غير مفهوم إلا لبعض الناس دون بعض.
وإنما وضع واستعمل لأنه مما يشحذ القريحة، ويحد الخاطر، لأنه يشتمل على معان دقيقة يحتاج في استخراجها إلى توقد الذهن، والسلوك في معاريج خفية من الفكر.
وقد استعمله العرب في أشعارهم قليلا ثم جاء المحدثون فأكثروا منه. وربما أتي منه بما يكون حسنا وعليه مسحة من البلاغة، وذلك عندي بين بين، فلا أعده من الأحاجي، ولا أعده من فصيح الكلام.
فما جاء منه قول بعضهم:
قد سقيت آبالهم بالنار ** والنار قد تشفي من الأوار

ومعنى ذلك أن هؤلاء القوم الذين هم أصحاب الإبل ذوو وجاهة وتقدم، ولهم وسم معلوم، فلما وردت إبلهم الماء عرفت بذلك الوسم، فأفرج لها الناس حتى شربت، وقد اتفق له أنه أتى في هذا البيت بالشيء وضده، وجعل أحدهما سببا للآخر، فصار غريبا عجيبا، وذاك أنه قال: سقيت بالنار، وقال: إن النار تشفي من الأوار، وهو العطش وهذا من محاسن ما يأتي في هذا الباب.
ومما يجري على هذا النهج قول أبي النواس في شجر الكرم:
لنا هجمة لا يدري الذئب سخلها ** ولا راعها غض الفحالة والحظر

إذا امتحنت ألوانها مال صفوها ** إلى الحو إلا أن أوبارها خضر

ومن هذا القبيل قول بعضهم:
سبع رواحل ما ينخن من الونا ** شيم تساق بسبعة زهر

متواصلات لا الدءوب يملها ** باق تعاقبها على الدهر

هذان البيتان يتضمنان وصف أيام الزمان ولياليه، وهي الأسبوع، فإن الزمان عبارة عنه، وذلك من الألغاز الواقعة في موقعها.
وعلى هذا الأسلوب ورد قول أبي الطيب المتنبي في السن من جملة قصيدته التي مدح بها سيف الدولة عند ذكر عبوره الفرات وهي:
الرأي قبل شجاعة الشجعان

فقال:
وحشاه عادية بغير قوائم ** عقم البطون حوالك الألوان

تأتي بما سبت الخيول كأنها ** تحت الحسان مرابض العزلان

وهذا حسن في بابه.
ومن ذلك قول بعضهم في حجر المحك:
ومدرع من صنعة الليل برده ** يفوق طورا بالنضار ويطلس

إذا سألوه عن عويصين أشكلا ** أجاب بما أعيا الورى وهو أخرس

وهذا من اللطافة على ما يشهد لنفسه، وكان سمعه بعض المتأخرين من أهل زماننا، فأجاب عنه ببيتين على وزنه وقافيته وهما:؟ سؤالك جلمود من الصخر أسود خفيف لطيف ناعم الجسم أطلس:
أقيم بسوق الصرف حكما كأنه ** من الزنج قاض بالخلوق مطلس

وقد رأيت هذا الشاعر، وهو حائك بجزيرة ابن عمر، وليس عنده من أسباب الأدب شيء سوى أنه قد أصلح لسانه بطرف يسير من علم النحو لا غير، وهو مع ذلك يقول الشعر طبعا، وكان يجيد في الكثير منه.
ومن الألغاز ما يرد على حكم المسائل الفقهية، كالذي أورده الحريري في مقاماته، وكنت سئلت عن مسألة منه وهي:
ولي خالة وأنا خالها ** ولي عمة وأنا عمها

فأما التي أنا عم لها ** فإن أبي أمه أمها

أبوها أخي وأخوها أبي ** ولي خالة هكذا حكمها

فأين الفقيه الذي عنده ** فنون الدراية أو علمها

يبين لنا نسبا خالصا ** ويكشف للنفس ما همها

فلسنا مجوسا ولا مشركين ** شريعة أحمد نأتمها

وهذه المسألة كتبت إلى فتأملتها تأمل غير ملجلج في الفكر، ولم ألبث أن أنكشف لي ما تحتها من اللغز، وهو أن الخالة التي الرجل خالها تصور على هذه الصورة، وذاك أن رجلا تزوج امرأتين: اسم إحداهما عائشة، واسم الأخرى فاطمة، فأولد عائشة بنتا، وأولد فاطمة ابنا، ثم زوج بنته من أبي امرأته فاطمة، فجاءت ببنت، فتلك البنت هي خالة ابنه، وهو خالها، لأنه أخو أمها. وأما العمة التي هو عمها فصورتها أن رجلا له ولد، ولولده أخ من أمه، فزوج أخاه من أمه أم أبيه، فجاء بنت، فتلك البنت هي عمته، لأنها أخت أبيه، وهو عمها، لأنه أخو أبيها، وأما قوله: ولي خالة هكذا حكمها فهو أن تكون أمها أخته، وأختها أمه، كما قال: أبوها أخي وأخوها أبي وصورتها أن رجلا له ولد ولولده أخت من أمه، فزوجها من أبي أمه، فجاءت ببنت، فأختها أمه، وأمها أخته.
وأحسن من ذلك كله وألطف وأحلى قول بعضهم في الخلخال:
ومضروب بلا جرم ** مليح اللون معشوق

له قد الهلال على ** مليح القد ممشوق

وأكثر ما يرى أبدا ** على الأمشاط في السوق

وبلغني أن بعض الناس سمع هذه الأبيات، فقال: قد دخلت السوق فما رأيت على الأمشاط شيئا، وظن أنها الأمشاط التي يرجل بها الشعر، وأن السوق سوق البيع والشراء.
واعلم أنه قد يأتي من هذا النوع ما هو ضروب وألوان، فمنه الحسن الذي أوردت شيئا منه كما تراه، ومنه المتوسط الذي هو دونه في الدرجة، فلا يوصف بحسن ولا قبح، كقول بعضهم:
راحت ركائبهم وفي أكوارها ** ألفان من عم الأثيل الواعد

ما إن رأيت ولا باركب هكذا ** حملت حدائق كالظلام الراكد

وهذا يصف قوما وفدوا على ملك من الملوك فأعطاهم نخلا، وكتب لهم بها كتابا، والأثيل: الموضع الذي كتب لهم إليه، والعم: العظام الرءوس من النخيل، والواعد: الأقناء من النخل، فلما حملوا الكتب في أكوارهم فكأنهم حملوا النخل، وهذا من متوسط الألغاز.
وقد جاء من ذلك ما هو بشع بارد، فلا يستخرج إلا بمسائل الجبر والمقابلة، أو بخطوط الرمل من القبض الداخل أو القبض الخارج والبياض والحمرة وغيرها، ولئن كان معناه دقيقا يدل على فرط الذكاء فإني لا أعده من اللغة العربية، فضلا عن أن يوصف بصفات الكلام المحمودة ولا فرق بينه وبين لغة الفرس والروم وغيرهما من اللغات في عدم الفهم.
وأما ما ورد من الألغاز فقد ألغز الحريري في مقاماته ألغازا ضمنها ذكر الإبرة والمرود وذكر الدينار، وهي أشهر كما يقال من قفا نبك، فلا حاجة إلى إيرادها في كتابي هذا.
وقد ورد في الألغاز شيء في كلام العرب المنثور غير أنه قليل بالنسبة إلى ما ورد في أشعارها، وقد تأملت القرآن الكريم فلم أجد فيه شيئا منها، ولا ينبغي أن يتضمن منها شيئا، لأنه لا يستنبط بالحدس والحزر كما تستنبط الألغاز.
وأما ما ورد للعرب فيروى عن امرئ القيس وزوجته عدة من الألغاز، وذاك أنه سألها قبل أن يتزوجها، فقال: ما اثنان وأربعة وثمانية؟ فقالت: أما الإثنان فثديا المرأة، وأما الأربعة فأخلاف الناقة، وأما الثمانية فأطباء الكلبة، ثم إنه تزوجها وأرسل إليها هدية على يد عبد له، وهي حلة من عصب اليمن ونحي من عسل ونحي من سمن، فنزل العبد ببعض المياه ولبس الحلة فعلق طرفها بسمرة فانشق، وفتح النحيين وأطعم أهل الماء، ثم قدم على المرأة وأهلها خلوف، فسأل عن أبيها وأمها وأخيها، ودفع إليها الهدية، فقالت له: أعلم مولاك أن أبي ذهب يقرب بعيدا ويبعد قريبا، وأن أمي ذهبت تشق النفس لنفسين، وأن أخي يرقب الشمس، وأخبره أن سماءكم انشقت، وأن وعاءيكم نضبا، فعاد العبد إلى امرئ القيس وأخبره بما قالته له، فقال: أما أبوها فإنه ذهب يحالف قوما على قومه، وأما أمها فإنها ذهبت تقبل امرأة، وأما أخوها فإنه في سرح يرعاه إلى أن تغرب الشمس، وأما قولها: إن سماءكم انشقت فإن الحلة انشقت، وأما قولها: إن وعاءيكم نضبا فإن النحيين نقصا، ثم قال للعبد: أصدقني، فقال له: إني نزلت بماء من مياه العرب، وفعلت كذا وكذا.
فهذا وأمثاله قد ورد عنهم إلا أنه يسير.
وكذلك يروى عن شن بن أقصى، وكان ألزم نفسه ألا يتزوج إلا امرأة تلائمه، فصاحبه رجل في بعض أسفاره، فلما أخذ منهما السير قال له شن: أتحملني أم أحملك؟ فقال له الرجل: يا جاهل، هل يحمل الراكب راكبا؟ فأمسك عنه، وسارا حتى أتيا على زرع، فقال شن: أترى هذا الزرع قد أكل؟ فقال له: يا جاهل، أما تراه في سنبله، فأمسك عنه، ثم سارا، فاستقبلتهما جنازة، فقال شن: أترى صاحبها حيا؟ فقال له الرجل: ما رأيت أجهل منك أتراهم حملوا إلى القبر حيا؟ ثم إنهما وصلا إلى قرية الرجل، فسار إلى بيته، وكانت له بنت، فأخذ يطرفها بحديث رفيقه، فقالت ما نطق إلا بالصواب، ولا استفهم إلا عما يستفهم عن مثله، أما قوله: أتحملني أم أحملك فإنه أراد أتحدثني أم أحدثك حتى نقطع الطريق بالحديث، وأما قوله أترى هذا الزرع قد أكل فإنه أراد هل استسلف ربه ثمنه أم لا، وأما استفهامه عن صاحب الجنازة فإنه أراد هل خلف له عقبا يحيا بذكره أم لا، فلما سمع كلام ابنته خرج إلى شن وحدثه بتأويلها فخطبها فزوجه إياها.
وأدق من هذا كله وألطف ما يحكى عن رجل من المناقذة أصحاب شيزر، وهو أولهم الذي استنقذه من أيدي الروم بالمكر والخديعة، ولذلك قصة ظريفة، وليس هذا موضع ذكرها، وكان قبل ملكه إياها في خدمة محمود بن صالح صاحب حلب، وكان إذ ذاك يلقب بسديد الملك، فنبا به مكانه، وحدثت له حادثة أوجبت له أن هرب ومضى إلى مدينة ترابلس في زمن بني عمار أصحاب البلد، فأرسل إليه ابن صالح واستعطفه ليعود إليه، فخافه ولم يعد، فأحضر ابن صالح رجلا من أهل حلب صديقا لابن منقذ وبينه وبينه لحمة مودة أكيدة، وأجلسه بين يديه، وأمره أن يكتب إليه كتابا عن نفسه يوثقه من جهة ابن صالح ليعود، فما وسعه إلا أن يكتب وهو يعلم أن باطن الأمر في ذلك خلاف ظاهره، وأنه متى عاد ابن منقذ إلى حلب هلك، فأفكر وهو يكتب في إشارة عمياء لا تفهم، ليضعها فيه يحذر بها ابن منقذ، فأداه فكره أن كتب في آخر الكتاب عند إنهائه: إن شاء الله وشدد إن وكسرها، ثم سلم الكتاب إلى ابن صالح، فوقف عليه وأرسله إلى ابن منقذ، فلما صار في يده وعلم ما فيه قال: هذا كتاب صديقي، وما يغشني، ولولا أنه يعلم صفاء قلب ابن صالح لي لما كتب إلي ولا غرني، ثم عزم على العود وكان عنده ولده، فأخذ الكتاب وكرر نظره فيه، ثم قال له: يا أبت مكانك، فإن صديقك قد حذرك، وقال: لا تعد، فقال: وكيف؟ قال: إنه قد كتب إن شاء الله تعالى في آخر الكتاب، وشدد إن وكسرها، وضبطها ضبطا صحيحا لا يصدر مثله عن سهو، ومعنى ذلك أنه يقول: إن الملا يأتمرون بك ليقتلوك، وإن شككت في ذلك فأرسل إلى حلب.
وهذا من أعجب ما بلغني من حدة الذهن وفطانة الخاطر، ولولا أنه صاحب الحادثة المخوفة لما تفطن إلى مثل ذلك أبدا، لأنه ضرب من علم الغيب، وإنما الخوف دله على استنباط ما استنبطه.
ووجد لبعض الأدباء لغز في حمام، فمنه ما أجاد فيه، كقوله: وقد أظلتها سماء ذات نجوم، لا استراق لها ولا رجوم، وهي مركبة في فلك صحت استدارته، وسكنت إدارته:
أعجب بها من أنجم ** عند الصباح ظاهره

لكنها إذا بدا ** نجم الظلام غائره

فهي على القياس جنة نعيم، مبنية على لظى جحيم، لا خلود فيها ولا مقام، ولا تزاور بين أهلها ولا سلام أنهارها متدفقة، ومياهها مترقرقة، والأكواب بها موضوعة والنمارق عنها منزوعة:
يطيع بها المولى أوامر عبده ** ويصبح طوعا في يديه مقاتله

ويرفع عنه التاج عند دخوله ** وتسلب من قبل الجلوس غلائله

هذا اللغز من فصيح الألغاز، ولا يقال: إن صاحبه في العمى صانع العكاز، وإذا تطرز غيره بلمعة من الوشي فهذا كله طراز.
ومما سمعته من الألغاز الحسان التي تجري في المحاورات ما يحكى عن عمر بن هبيرة وشريك النميري، وذاك أن عمر بن هبيرة كان سائرا على برذون له، وإلى جانبه شريك النميري على بغلة، فتقدمه شريك في المسير، فصاح به عمر: اغضض من لجامها، فقال: أصلح الله الأمير، إنها مكتوبة، فتبسم عمر ثم قال له: ويحك لم أرد هذا، فقال له شريك ولا أنا أردته.
وكان عمر أراد قول جرير:
فغض الطرف إنك من نمير ** فلا كعبا بلغت ولا كلابا

فأجابه شريك بقول الآخر:
لا تأمنن فزاريا نزلت به ** على قلوصك واكتبها بأسيار

وهذا من الألغاز اللطيفة، وتفطن كل من هذين الرجلين لمثله ألطف وأحسن.
ومما يجري هذا المجرى أن رجلا من تميم قال لشريك النميري: ما في الجوارح أحب إلي من البازي؟ فقال له شريك: إذا كان يصيد القطا.
وكان التميمي أراد قول جرير:
أنا البازي المطل على نمير ** أتيح من السماء لها انصبابا

وأراد شريك قول الطرماح:
تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا ** ولو سلكت طرق المكارم ضلت

واعلم أن خواطر الناس تتفاضل كتفاضل الأشخاص، ومن هاهنا قيل: سبحان خالق أبي موسى وعمرو بن العاص.